إذا كانت الملابس تعبر عن شخصية الإنسان فهي بالتالي تمثل جزءا من هويته، ولكن الجزء ليس هو الكل، هذه مقدمة أولى. وإذا كانت الملابس قد تعبر عن مستوى تدين الشخص الظاهري فإنها لا يمكن أن تقيس مستوى تدينه الداخلي أي التقوى لأن التقوى مثواها القلب وهو ليس من اختصاصنا بل من اختصاص خالق البشر ومقلب القلوب، وهذه مقدمة ثانية، أما المقدمة الثالثة فهي أننا إذا كنا نتعامل مع أي إنسان بناء على مستوى تدينه – الظاهري أو الذي نظن أنه في داخله أيضا – فإننا بذلك نتحول إلى وكلاء لله في أرضه فندخل من نشاء الجنة ونقذف بمن نشاء في النار، وحاشا لله سبحانه أن يشرع لنا ذلك لأنه مما اختص به سبحانه نفسه.
لا توجد عقوبة واضحة – في القرآن الكريم وصحيح السنة – يجب إيقاعها على المرأة إذا لم تتقيد باللباس الشرعي، وهذا اللباس الشرعي ليس له سمة الثبات الزماني أو المكاني، بل هو يختلف باختلاف البيئة والعرف، والآيات الواردة في القرآن الكريم إذا فسرت بشكل حيادي أي بعيد عن تحيزات مسبقة في العقل البشري فإنها لا يمكن أن تفسر إلا بمطلب الحشمة المفروض على المرأة المسلمة، وأكثر التفاسير حيادية هي تلك التي تطلب من المرأة إخفاء كل ما تختلف به عن الرجل، والمقصود تحديدا الصفات التي تعطيها شكلها الأنثوي، لذلك فخروج المرأة بملابس ضيقة أو شفافة أو كشفها لمواضع من جسدها مثيرة للرجال بعامتهم، كل ذلك مرفوض شرعا، هذا ما أجمع عليه كافة الفقهاء، ومنهم من توسع في ذلك فسمح للمرأة أن تكشف شعرها في البيئات الغربية التي اعتادت على كشف المرأة لشعرها حيث إنه لا يشكل أي إثارة للرجل وإن كان يمثل شكلا جماليا عند غالبية الرجال، ولا يهمنا هنا مناقشة الآراء المضيقة على المرأة، خصوصا أنه سبق لي ولغيري من الكتاب والكاتبات مناقشتها في مقالات عديدة.
قبل الاستمرار في موضوع المقالة دعونا نطرح سؤالا: ماذا عن لباس الرجل؟ ماذا إذا كان الرجل يلبس ثوبا ضيقا أو بنطالا شفافا؟ حتى البناطيل الضيقة للذكور في أكثر البلاد العربية لا تعني شيئا للمجتمع عموما، وفي كثير من هذه البلاد لا ينظر للفتاة التي تلبس بنطالا ضيقا سوى نظرة شزر من بعضهم ويستمر الناس في حياتهم، لذلك الموضوع الذي لا يشكل قيمة كبيرة إلا في البلاد التي تطبق – أو تدعي تطبيق – الشريعة الإسلامية، ولذلك رأينا في بلد عربي من يريد أن يجلد صحفية أربعين جلدة، تحت ذريعة عدم مراعاة الذوق العام، لأنها تلبس البنطال، وهو البلد الذي يعاني ما يعاني من حروب وفقر وتهديد بالانقسام الداخلي، وفي شبه بلد عربي آخر، أقول شبه، بمعنى أنه لا يوجد مرجعية حكومية واضحة، تصدر قوانين بإلزام المحاميات بتغطية شعورهن ولبس الجلباب، وشبه البلد هذا يعاني ويلات القتل والحصار ونقص الغذاء بل نقص كل شيء، ولكن المشكلة ليست في أي شيء سوى زيادة الانقسام وزيادة الشعور بالتفرق والاختلاف!
الصحفية التي رأينا صورتها تغطي شعرها ويبدو أن بنطالها غير ضيق وقميصها طويل يغطي معظم الفخذين، ومع ذلك هي مهددة بالجلد، والمحامية التي رأيناها تدافع عن حقها في كشف شعرها تبدو أنها محتشمة ومحترمة وبأقل الزينة الممكنة للمرأة كما ظهرت على التلفاز، فلماذا تشوه قضية الحرية بهذا الشكل؟ ولماذا لا تبقى قضية للعرب سوى لباس المرأة وسفورها وحجابها؟
أرجو أن يعلم القارئ أني أحب للمرأة أن تتقيد بتعاليم دينها، فتغطي جسدها وشعرها، ولكن لا يمكن أن أقبل تطبيق الشريعة على المرأة فقط، هذا أولا، وأما ثانيا فهو أن البلاد العربية الأخرى – سوى المملكة العربية السعودية – تأثرت بالفكر الغربي نتيجة الاستعمار، ولذلك حبذت بعض النساء كشف رؤوسهن كلية، وتوارثن ذلك عن أمهاتهن وجداتهن، فهل ينفع إجبارهن على التغطية رغم كل الاحترام البادي عليهن لأنفسهن ولتقاليد مجتمعاتهن المستمد بعضها من وجود الاستعمار السابق كما أوضحت؟
حتى في المملكة يختلف لباس المرأة من مدينة لأخرى، وإذا كان غطاء الوجه سائدا في مدينة فلا يسوّغ فرضه على النساء في مدينة أخرى، وإذا وجدت فتاة تكشف شعرها وليس فقط وجهها فإنها لن تنصاع للأوامر وهي لا تعلم الغاية من ذلك، فكيف إذا تم اللجوء إلى العنف من أجل فرض أمر ما في سن معينة؟ أعتقد أن الحصيلة هي التمرد، وفي بعض البلاد العربية، حيث قد يفرض الأب على الفتاة غطاء الشعر، فإنها تتمرد على السلطة الأبوية لدى غيابها، وقد درست في جامعة مختلطة ورأيت الكثيرات منهن يرفعن غطاء الشعر بمجرد الوصول إلى المدينة أن تتقيد بما لم تعتد عليه في هو بيئتها؟
أعتقد أن فرض هذا الأمر لا يخلو من تعصب ضد مظهر معين، وهو تعصب يؤدي إلى العنف كالجلد مثلا في حالة الصحفية والمنع القسري من دخول المحامية لقاعة المحكمة، وإذا كان الغضب قد تملك قلوب كثيرين لمقتل مروة الشربيني على يد متعصب ألماني بسبب مظهرها وخمارها، فإننا يجب ألا نفعل ما ننتقد عليه الآخرين، ويجب أن نعلم أن قضايانا أهم بكثير من لباس المرأة، وما دامت المرأة تراعي قواعد الحشمة النسبية والمتغيرة من مجتمع لآخر فلا داعي لانقسامات تؤدي لاحتقانات اجتماعية أكثر مما موجود فعلا، والله أعلم.