فاشتملت هذه الواقعة على نوعين من طرق الاستدلال على صحة نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعظيم قدره عند ربه، وأنه ليس ممن يخزيه الله تعالى:
النوع الأول: الاستدلال بأحواله وأخلاقه وأعماله، وبهذا استدلت خديجة رضي الله عنها. والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم الصدق من نفسه أكثر مما يعلمه غيره منه، وإنما خاف في أول الأمر أن يكون قد عرض له عارض سوء، فذكرت خديجة ما ينفي هذا، وهو ما كان مجبولاً عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم والأعمال، وهو الصدق المستلزم للعدل، والإحسان إلى الخلق، ومن جمع فيه الصدق والعدل والإحسان لم يكن مما يخزيه الله، وصلة الرحم وقري الضيف وحمل الكل وإعطاء المعدوم، والإعانة على نوائب الحق هي من أعظم أنواع البر والإحسان، وقد علم من سنة الله أن من جبله الله على الأخلاق المحمودة ونزهه عن الأخلاق المذمومة فإنه لا يخزيه.
وبهذه الطريقة -أيضاً استدل هرقل ملك الروم، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كتب إليه كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام، وكان أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة إلى غزة، فطلبهم وسألهم عن أحوال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فطلب هرقل أبا سفيان، فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ، فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ..
ثم سأله: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ فقال: قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، إلى آخر الأسئلة التي سأل أبا سفيان عنها. ثم قال هرقل لترجمانه، بعد انتهاء ما عنده من الأسئلة، وسماع جواب أبي سفيان عنها:
قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا.
وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ، فَذَكَرْتَ أَنْ لا، فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ.
وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ، فَذَكَرْتَ أَنْ لا، قُلْتُ: فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ.
وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ ، فَذَكَرْتَ أَنْ لا ؛ فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ.
وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ.
وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ.
وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فَذَكَرْتَ أَنْ لا، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ.
وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَذَكَرْتَ أَنْ لا ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لا تَغْدِرُ.
وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّاً فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ!!
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا أخبرت الأنبياء المتقدمون أن المتنبىء الكذّاب لا يدوم إلا مدة يسيرة، وهذه من بعض حجج ملوك النصارى الذين يقال إنهم من ولد قيصر هذا أو غيرهم، حيث رأى رجلاً يسبّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رؤس النصارى ويرميه بالكذب، فجمع علماء النصارى وسألهم عن المتنبىء الكذّاب: كم تبقى نبوته؟ فأخبروه بما عندهم من النقل عن الأنبياء أن الكذاب المفتري لا يبقى إلا كذا وكذا سنة، لمدة قريبة إما ثلاثين سنة أو نحوها!! فقال لهم: هذا دين محمد له أكثر من خمسمائة سنة، أو ستمائة سنة [ يعني: في أيام هذا الملك]، وهو ظاهر مقبول متبوع، فكيف يكون هذا كذاباً؟؟ ثم ضَرَب عنق ذلك الرجل!!
والنوع الثاني: الاستدلال بالنظر في رسالته وما جاء به، ومقارنتها بما جاء به الرسل من قبله: وبهذا استدل ورقة بن نوفل على صحة نبوّته لما سمع ما جاء به؛ فالنبوة في الآدميين هي من عهد آدم عليه السلام.
وقد علم ما كانت عليه الرسل من الأقوال والأحوال على وجه العموم؛ فالمدعي للرسالة إذا أتى بما يظهر به مخالفته للرسل علم أنه ليس منهم، وإذا أتى بما هو من خصائص الرسل علم أنه منهم، لا سيما إذا علم أنه لا بد من رسول منتظر.
ولهذا قال الله تعالى: {
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ . الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [البقرة:146-147].
وبهذه الطريقة أيضاً استدلّ النجاشي على صحة نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآمن به بعد ذلك، فإنه لما سألهم عما يخبر به، واستقرأهم القرآن فقرؤه عليه ، قال: (إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة).
[انظر: شرح العقيدة الأصفهانية، لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله].
**الدفاع عن النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إن من واجب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا أن نحبه ونجله ونبجله ونعظمه ونتبع سنته في الظاهر والباطن, وأن نذب عنه كيد الكائدين ومكر الماكرين.
وفي هذا العصر المليء بالفتن والشرور على الأمة الإسلامية، فإننا نجد حملة ضارية سيئة من عدد من الرهبان والقسس وضعاف النفوس وضعاف العقول على شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام.
فيا لله! كيف تنبري فرقة أومنظمة أوأفراد بالقدح أو الحط من قدر هذا النبي الخالد؟؟
كذبتم وايم الله يبزى محمد *** ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله *** ونذهل عن أبنائنا والحلائل
إن الهجوم الإعلامي على الإسلام ذو جذور قديمة قدم الإسلام، وهو أحد الأساليب التي اتخذها الكفار للصد عن سبيل الله تعالى، بدأ من كفار قريش وحتى عصرنا الحاضر، وهذا الهجوم له ألوان كثيرة ولكنها في أغلبها كانت محصورة في نطاق الشبهات والمغالطات والطعون. لكن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، انتقل الهجوم إلى لون جديد قذر لم يُعهد من قبل وهو التعرض لشخص الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والنيل من عرضه وذاته الكريمة، وقد اتسم هذا الهجوم بالبذاءة والسخرية والاستهزاء، مما يدل دلالة واضحة أن هذا التهجم له منظمات وله استراتيجيات خاصة، تتركز على استخدام وسائل الإعلام بل ويقومون به أناس متخصصون مدعومون من بعض قساوسة النصارى لا كلهم.
قال جيري فالويل: أنا أعتقد أن محمداً كان إرهابياً، في اعتقادي.. المسيح وضع مثالاً للحب، كما فعل موسى، وأنا أعتقد أن محمداً وضع مثالاً عكسياً، إنه كان لصاً وقاطع طريق.
وقال بات روبرتسون: كان مجرد متطرف ذو عيون متوحشة تتحرك عبثاً من الجنون.
وقال جيري فاينز: شاذ يميل للأطفال، ويتملّكه الشيطان.
وقال جيمي سوجارت: إنه شاذ جنسياً، ضال انحرف عن طريق الصواب.
هذا غير تصويره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صراحة في الرسوم الكاريكاتورية في مواقف ساخرة وضيعة.
وهكذا انتقل الهجوم على الإسلام من طرح الشبهات إلى إلقاء القاذورات، ولم يجد المهاجمون في الإسلام ولا في شخص خاتم الأنبياء ما يرضي رغبتهم في التشويه، ووجدوا أن الشبهات والطعن الفكري من الأمور التي يسهل تفنيدها وكشف زيفها أمام قوة الحق في الإسلام، فلجؤوا إلى التشويه الإعلامي، وخاصة أنهم يملكون نواصيه في الغرب.
هذه القضية تثير غيرة كل مسلم، وتدفعه إلى التساؤل عن أسباب هذه الهجمة، والأغراض الكامنة وراءها، ومدى تأثيرها.
**العوامل الدافعة للنيل من شخصية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
1- سرعة انتشار الإسلام، والتي تثير غيرة كل المعادين للدين، سواء أكانوا من النصارى أو اليهود، أو من العلمانيين والملحدين.
2- حسد القيادات وخصوصاً الدينية، فإن كثيراً من هؤلاء يغيظهم شخص الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل حتى المنافقين في العالم الإسلامي، لما يرون من لمعان اسم النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل الأرجاء وكثرة أتباعه وتوقير المسلمين الشديد لنبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا ما يثير حسدهم.
3- عامل الخوف، ليس الخوف من انتشار الإسلام في الغرب فحسب بل الخوف من عودة المسلمين في العالم الإسلامي إلى التمسك بدينهم، وهم الآن يستغلون ضعف المسلمين في كثير من الجوانب، مثل الجانب الاقتصادي والإعلامي، ويريدون أن يطفئوا هذا النور قبل أن ينتشر في العالم.
**حكم من سب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أجمع العلماء على أن من سب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المسلمين فهو كافر مرتد يجب قتله.
وهذا الإجماع قد حكاه غير واحد من أهل العلم كالإمام إسحاق بن راهويه وابن المنذر والقاضي عياض والخطابي وغيرهم. (الصارم المسلول 2/13-16).
وقد دل على هذا الحكم الكتاب والسنة:
أما الكتاب؛ فقول الله تعالى: {
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ . وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ . لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [التوبة:66].
فهذه الآية نص في أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر، فالسب بطريق الأولى، وقد دلت الآية أيضاً على أن من تنقص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد كفر، جاداً أو هازلاً.
وأما السنة؛ فروى أبو داود (4362) «
عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ يَهُودِيَّةً كَانَتْ تَشْتُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقَعُ فِيهِ، فَخَنَقَهَا رَجُلٌ حَتَّى مَاتَتْ، فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهَا ».
قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول (2/126): وهذا الحديث جيد، وله شاهد من حديث ابن عباس وسيأتي. اهـ.