تلك القرية الوادعة، تقف شامخة في الشمال الغربي من بيت المقدس محيطة به، خصوصًا من الشمال والغرب، وهي بوابة القدس الغربية والشمالية، والقادم إلى القدس من الشمال يمرّ بالتلة الفرنسية وأرض السمار والشيخ جراح، وهي بعض أراضي قرية لفتا. ولعلّ المؤرخون لم يخطئوا حين سموا (لفتا) مدينة كنعانية باسم (نفتوح) – وان استغلت التسمية وحرّفت من قبل الغير - كما اعتبرها إحصاء عام 1945 القرية الثانية من حيث مساحة مسطح القرية بين قرى مدينة القدس.
تقول الرواية الشفوية أن اسم (لفتا) بكسر اللام وتسكين الفاء، هو الاسم الموروث عن الآباء والأجداد. في عهد أجدادنا الأوائل الكنعانيين عرفت باسم (نفتوح) بمعنى الفتح باللغة الكنعانية، أما في الفترة الرومانية فقد عرفت باسم (مي نفتوح) Mey Nephtoah كما أطلق عليها اسم نفتو في الحكم البيزنطي، وفي أيام الصليبيين عرفت القرية باسم كليبستا وفي عام 1596م كانت قرية لفتا من ناحية القدس.
ليس هناك من سبب واضح جلي لتسمية لفتا بهذا الاسم، ولا شك في أن تغيرات كثيرة تمر على حروف الكلمة خلال الأزمنة المتطاولة، ونتيجة لتعاقب جيوش الدول والحضارات على البلدان، فكيف بأرض فلسطين المباركة المقدس، ولفتا من هذه الأرض المباركة، ربما اتخذت هذا الاسم مؤخرًا، حيث أخذت من مادة لفت يلفت التفاتًا، وربما جاء هذا الاسم نتيجة لإحاطتها بمدينة القدس الشريف، حيث يجول الواقف ببيت المقدس بناظريه، فيجد أرضًا لهذه القرية محيطة بالقدس، حيثما التفت.
تقع لفتا إلى الشمال الغربي من القدس الشريف فوق رقعة مرتفعة من جبال القدس، وعلى السفح الغربي لجبل خلة الطرحة، وهي تشرف على أحد المجاري العليا لوادي الصرار، وهو وادي الشامي الذي يجري في طرفها الشمالي، وتخترق لفتا طريق القدس- يافا وكذلك طريق القدس- رام الله، وتصلها طرق معبدة وبعضها ممهدة تصلها بقرى دير ياسين وعين كارم والجورة وبيت إكسا وقالونيا والقسطل ومتوسط الارتفاع بالأمتار عن سطح البحر لقرية لفتا 675 مترًا.
إن القادم من مدن الشمال أو طولكرم أو رام الله أو نابلس أو قراها لابد له من المرور بأراضي لفتا حتى يلج باب العمود أو باب الساهرة، مارًا بأراضي لفتا في الشيخ جراح، والقادم من مدن يافا أو اللد والرملة وحيفا أو من قرى غرب القدس ليدخل من باب الخليل، لابد له من المرور بأراضي لفتا لأن القرية هي بوابة القدس الغربية، وربما سمي جبل المشارف بهذا الاسم لأن الناظر من قمته يشرف على أحياء القدس القديمة، كل ذلك يدل على أهمية موقع لفتا ولا ننسى أن لفتا اشتركت مع بعض القرى المجاورة لمدينة القدس في إحاطة أراضيها بالمدينة المقدسة، إحاطة السوار بالمعصم، وكانت أراضيها تصل حتى أسوار القدس.
بلغت مساحة أراضي لفتا في عام 1945 (8743) دونمًا حسب وثائق الانتداب البريطاني وخريطة فلسطين، غير أنه عندما أنشئت بلدية القدس في نهاية العهد العثماني اتسعت مساحتها لتشمل أراضي خارج السور على حساب القرى المجاورة ومنها لفتا. وعند مجيئ الانتداب البريطاني في أوائل القرن العشرين ازدادت مساحة نفوذ "بلدية القدس" على حساب أراضي القرى المجاورة مرة أخرى وكان نصيب لفتا من اقتطاع أراضيها إلى البلدية كبيرًا حيث ضمت أراضي الحارة الفوقا للفتا إلى بلدية القدس ووقفت عند أراضي الحارة التحتا للقرية بحيث لم يعد لقرية لفتا إلا ما ذكر وهو (8743) دونما، وهي أراضي الحارة وبقي ما تبقى من أراضي القرية، ونظرة سريعة الى حدود قرية لفتا لاحقا يدل على مساحاتها الواسعة ويصدّق الرواية ان مساحة قرية لفتا تجاوزت الـ 30 ألف دونم .
وجاء في كتاب "القدس مدينتي ولفتا قريتي" لمؤلفه الدكتور زكريا صيام عن أراضي أهالي لفتا المشتركة مع مدينة القدس أو كانت لأهالي القرية في داخل مدينة القدس، ما يلي: "لعل اشتراك عائلات لفتاوية ومقدسية في ملكية بعض الأراضي الواقعة في المدينة المقدسة، يؤكد الصلة العضوية بين هذه القرية وهذه المدينة، بل إنك تجد أسماء بعض العائلات مشتركة هنا وهناك، وبالرغم من اقتراب موقع لفتا من بيت المقدس إلى الحد الذي اعتبرت فيه لفتا جزأً لا يتجزأ من القدس، فإننا نذكر فيما يلي أهم الأراضي المشتركة بين هؤلاء وهؤلاء: جبل المشارف: ويسمى أهل لفتا أعاليه "أرض البياض" لأن تربتها يغلب عليها اللون الأبيض أكثر من غيره، وقد كانوا يتعاملون مع الأرض بما يناسبها من أنواع الزراعة.
ويعد جبل المشارف من أهم المواقع الاستراتيجية التي تطل على مباني المدينة المقدسة، ويقع على الطريق الرئيس المؤدي إلى القدس من مختلف المدن والقرى الواقعة شمال المدينة المقدسة، وأطلق عليه الفرنجة جبل "سكوبس" ويبلغ ارتفاعه عن سطح البحر نحو ثلاثة آلاف قدم، ويمكن للناظر من رأس الجبل أن يشاهد جبال السلط وغيرها من مرتفعات الأردن في الشمال والجنوب، وقد بنى اليهود على جبل المشارف شرقاً جامعتهم العبرية ومستشفى هداسا.
حي وادي الجوز: يتصل بالطرف الشرقي الجنوبي المنحدر من جبل المشارف، ويسمى "أرض السمار" نسبة إلى تربته وصخوره ويمتد إلى بداية جبل الطور.
حي الشيخ جراح: يمتد إلى الجنوب من جبل المشارف، تقع فيه مباني حكومية وقنصليات أجنبية وفيه أيضاً مستشفى فرنسي خاص بعلاج أمراض العيون.
حي باب العامود وباب الساهرة: هذان البابان واقعان في الجهة الشمالية من بيت المقدس، ويعدان المدخلان الرئيسان للقادم من شمال المدينة، وتتميز الأراضي الواقعة بينهما خارج السور بأهميتهما التجارية والسياحية، وتكثر فيها المدارس والبنوك والصيدليات وغيرها من المرافق الهامة، وفيها المقابر الإسلامية التي ضمت أضرحة بعض الفاتحين والعلماء والفقهاء الذين جاءوا إلى بيت المقدس منذ قرون خلت.
حي الشيخ بدر: يقع إلى الجهة الغربية الشمالية من بيت المقدس وهو المنطقة التي تقع فيها محطة باصات ايغد "محطة الباصات المركزية" وحي الشيخ بدر المدخل الرئيسي لقرية لفتا من الجهة الشرقية الجنوبية". ومن خلال بحثي حيث أجريت أحاديث مطولة مع كبار السن من أهل لفتا، طلبوا مني أن أفيض في توضيح صورة قريتهم وأن أذكر أن قطعاً من أراضيهم موجودة في المصرارة وفي شارع يافا قبل عام 1948م ولديهم وثائق تثبت أن لهم أراضي ملاصقة لسور البلدة القديمة من الجهة الشمالية، وأذكر هذا من باب أداء الأمانة التي حملني أياها أولئك الكرام من أهالي لفتا.
فحدود لفتا إذن حسب الوثائق الفلسطينية وخريطة فلسطين عام 1945م، من الشمال قرى شعفاط وبيت حنينا وبيت أكسا، ومن الغرب بيت إكسا وقالونيا ومن جهة الجنوب مدينة القدس ودير ياسين ومن جهة الشرق قرى طور والعيسوية وشعفاط".
أوقاف قرية لفتا عبر التاريخ :
شهدت أراضي فلسطين حروب وصراعات كثيرة، وقد أصاب القدس وما حولها من تلك الغارات والصراعات نصيب الأسد، كما أصاب باقي مدن وقرى فلسطين، فخضعت لمصر وآشور وبابل وفارس واليونان والرومان والفتح الإسلامي وحكم بني أمية وبني العباس ثم جاء الفرنجة، فواجههم صلاح الدين الذي أدرك، ومن بعده المماليك، الأهمية الخاصة لبيت المقدس وما حوله بالنسبة للأماكن المقدسة والخليل وما حولها من القرى، فأنشأوا فيها المصليات والأسبلة والمدارس والخانات.. الخ، وجعلوا من أراضيهم أوقافاً خيرية تخليداً لأمجادهم في خدمة بيت المقدس وما حوله. وقد وصل الأمر بسلاطين بني أيوب والمماليك والعثمانيين إلى حد التنافس في وقف الأراضي وكانت لفتا في عهد الدولة العثمانية موقوفة بالكامل على مصالح مسجد الصخرة المشرفة ومسجد إبراهيم الخليل عليه السلام، مناصفة.
المسجد :
يقع مسجد لفتا في منتصف القرية وهو عبارة عن غرفتين سعة كل منهما حوالي (60) متراً وللمسجد محراب، وبجانب المسجد مصلى الشيخ سيف الدين، ويطلق على المسجد اسم مسجد سيف الدين، وسيف الدين هذا هو الأمير سيف الدين عيسى بن حسين بن قاسم الهكاري، من أمراء جند القائد صلاح الدين، ويقال إن هذا الأمير بعد انتصار جيش المماليك على التتار في معركة عين جالوت استقر في لفتا وأوقف على مصالح التربة (المقبرة) والمسجد في لفتا ربع أراضي قرية لفتا وذلك عام 656 هجري .
وكان إمام المسجد في عام 1900 الشيخ حسن دقة وهو مدرس الكتاب في المسجد قبل بناء المدرسة. وفي عام 1930 كان إمام المسجد الشيخ أحمد موسى ويساعده أحمد الحاج وذلك حسبة لله وبدون أجر ويتناوب على التدريس في المسجد لله أيضاً منهم الشيخ صالح عدوي من لفتا وهو من علماء الشافعية في القدس وخريج الأزهر في القاهرة وأحياناً الشيخ جمال الدجاني المدرس في مدرسة لفتا الأميرية في ذلك الوقت بالإضافة إلى عدد من مدرسي المسجد الأقصى المبارك ووعاظ الأوقاف.
خان الظاهر بيبرس :
كان خان الظاهر بيبرس يقع في الجزء الشرقي من أراضي الشيخ بدر، والذي أمر ببنائه الظاهر بيبرس الذي أدرك الأهمية الاستراتيجية لهذا الموقع في قرية لفتا على طريق المواصلات ليرتاح فيه القادمون وعابرو السبيل من عناء السفر، وتجهزوا منه لمتابعة السفر والتزود منه بحاجاتهم من الأغذية والماء، والتأمين على أرواحهم وأموالهم وبضائعهم، وعرف هذا الخان باستمرار عطائه أكثر من 250 سنة منذ الإنشاء عام 662هـ، وكان حول الخان بساتين وحدائق جميلة وبداخله مسجد وله إمام، وللخان مطبخة خاصة للحبوب وبه فرن يعمل بانتظام، وجاء في موسوعة بلادنا فلسطين للدباغ عن هذا الخان ما يلي:" وفي عام 661هـ نزل ببيت المقدس (الظاهر بيبرس) لتفقد عمارة حرمها وشؤونها وأمر ببناء خان خارج البلدة"، وفي موقع آخر في نفس الصفحة جاء ما يلي: ( وحول إنشاء الخان قال: صاحب النجوم الزاهرة، وفي سنة إحدى وستين وستمائة أمر الملك الظاهر بإنشاء خان في القدس الشريف للسبيل وفوض محمد بن نهار، ولما تم الخان المذكور أوقف عليه قيراطاً ونصفاً من الطرة-الطرة قرية في الأردن- وأراضي من قرية المشيرفة قرية في سوريا اليوم، ونصف قرية لفتا، يصرف ربع ذلك في خبز وفلوس واصلاح نعال من يرد - على الخان من المسافرين المشاة، وبنى له طاحوناً وفرناً".