الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن وقوع المسلم في الأسر مصيبة من جملة المصائب التي يبتلي الله بها عباده، وقد حاول كفار قريش أن يصيبوا النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من ذلك حين اجتمعوا في دار الندوة لينظروا في أمره قبل هجرته إلى المدينة فتردد رأيهم بين قتله أو إخراجه أو أسره قبل أن يستقروا على قتله ولكن الله نجاه منهم برحمته، قال تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) وفي الجهاد يعترض طريق المجاهد شيء من الابتلاءات إما بالهزيمة لتقصيره في حق الله، أو تفريطه في أخذ العدة للحرب، وإما بالجراح، وإما بالأسر، وكلها تعود عاقبتها إلى خيرٍ للمؤمن كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أمر المؤمن كله له خير إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له وليس ذلك إلا للمؤمن) فأما الهزيمة فتنقي الصف المؤمن كما قال تعالى: (وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 141] وأما الجراح فتزيد من الأجر كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى اللون لون الدم والريح ريح المسك) وأما الأسر فبلاء وامتحان، قال ابن جرير رحمه الله في قوله تعالى: (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم) [التوبة: 14]: (يخزهم: يذلهم بالأسر والقهر) فالأسر فيه ذل وقهر، قال الإمام أحمد رحمه الله: (الأسر شديد) لذا قال رحمه الله في نفس المقولة: لا يعجبني أن يستأسر القتل أحب إلي، وقال الشيخ يوسف العييري رحمه الله متحدثاً عن قصة العين الذين بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم وأمر عليهم عاصم بن ثابت رضي الله عنه: (وفي القصة جواز المقاتلة وجواز الاستسلام وكلاهما فعله بعض الصحابة هنا وإن كان القائد عاصم وأكثر من معه لم يقبلوا الاستسلام، ومن قبل الاستسلام فقد قتل بعد الأسر وناله شئ من الإيذاء، ولذا فإننا نختار ألا نستسلم للعدو بأي حال من الأحوال وهذا أخذ بالعزيمة وإنما الاستسلام رخصة كما ذكر ذلك ابن حجر رحمه الله في الفتح 7/374 ونقل عن سفيان الثوري كراهة الاستسلام، قلت: ولا يبعد حرمته للقادة وأهل الشأن خاصة.
ولأن استسلام المجاهد مع ما فيه من الانهزام وشئ من الذل وما فيه من كسر قلوب المسلمين، وثلمةٍ في موقف المجاهدين، وما فيه من سرور العدو وغبطته وشماتته بالمجاهدين والمسلمين عامة ورفع معنوياته، مع ما في الاستسلام من جميع تلك المفاسد إلا أنه أيضاً لا يحقق للمستسلم ما خاف على نفسه منه وهو الموت فإنه سيصير إلى قِتلة أشنع وأذل مما سيقتل عليها لو لم يستسلم هذا إن لم يمر قبل ذلك على التعذيب والتنكيل وانتزاع المعلومات التي قد تضر غيره). [مجموع الدراسات الشرعية]
فينبغي أن يحرص المسلم وخصوصاً المجاهد على عدم الأسر، وإذا حوصر أو طورد فلا تهن نفسه ولا تضعف وعليه أن يتطلع إلى نعيم الجنة وأجر الشهادة فما بينه وبين الجنة إذا أخلص نيته وصدق مع الله إلا أن يقتله هؤلاء العساكر الأنذال من جنود الطاغوت عبيد أمريكا الذين قاتلوا تحت راية الشيطان، وإنك لتعجب أشد العجب من رجل عاقل عرف دين الله واهتدى إلى الصراط المستقيم وبصره الله بكفر الطواغيت المتسلطين علينا وعرف حكم الجهاد في سبيل الله ورأى الكفر بين أظهرنا والشرك في مدينة رسولنا والقوانين مطبقةً محكوماً بها، ورأى الكفار يتقلبون في البلاد قريبها وبعيدها يذلون أهل الإسلام وينصرون أهل الشرك والكفر والصليب والأوثان، ورأى تخاذل أكثر الناس عن الجهاد، عجباً لمن كانت هذه حاله كيف يلقي بنفسه إلى التهلكة ويترك الجهاد ويسلم نفسه إلى الطاغوت حين يطلبه ؟ أرضي بالحياة الدنيا من الآخرة ؟ أم بدا له اليوم شكٌ في كفره ؟ أم أعجبه حال السجن ورضي به بديلاً عن مصارع الأبطال ومنازل الشهادة ؟
كثيرة هي المثبطات التي تدفع بشاب موحد إلى تسليم نفسه بلا مقاومة ولا مدافعة، فحب الدنيا وكراهية الموت وإحسان الظن في هؤلاء المجرمين والعجز والكسل وضعف الإيمان عوامل تضعف من إرادة المرء وتزين لنفسه أن يسلمها بكل هوان وذلة إلى الكافرين ليجعل لهم عليه سبيلاً باختياره وقد كان له مندوحة بالتخفي، أو اللحوق بالجبهات وهي كثيرة، أو بالمقاومة وطلب الشهادة.
فالنصيحة لكل من نور الله قلبه بنور الإيمان أن يتقي الله في نفسه وإخوانه وأمته وليتبوأ منزلته التي أرادها الله لمن آمن به، وفضله بها على كثير ممن خلق تفضيلاً، واعلم أخي أن السجن بلاء سراؤه وضراؤه، فأما الضراء فما يعرفه أكثر الناس وينفرون منه بطبعهم من ألوان التعذيب والأذى الجسدي والنفسي، وأشد من ذلك الفتنة في الدين فمن سماعٍ لكلمات الكفر والزندقة وسب الله والدين والرسول إلى تعذيب يحطم نفسية المسلم ويخوفها وربما أدى به إذا خرج من السجن أن يترك طريق الجهاد وينكص عن الحق الذي علمه من قبل، ولربما أجبره الطواغيت على أن يكون لهم عينا على إخوانه ويجندوه لحسابهم بعد أن يهددوه بصور أو وثائق يخضع بعدها لمطالبهم، وأما السراء فأن يبتلى الموحد بشيء من المال يعطاه حال سجنه أو بعده وربما موهوه في صورة تعويضاتٍ أو نحو ذلك، أو موعدةٍ بمنصب أو ينخدع بحسن معاملة أو تلطف فيلقون عليه شبهاتهم ويصرفونه عما عرفه من الحق، وكل ذلك حدثت فيه قصص معروفة متداولة يعرفها الناس ونماذجها الحية محسوسة نسأل الله السلامة والعافية، وأنا أعلم أن هناك ممن دخل السجن من ثبت وصبر بل وخرج منه أصلب عوداً وأقوى إيماناً وهذا هو الواجب في حق كل من ابتلي بالسجن والأسر إذ ينبغي عليه أن يحتسب ويصبر وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن قبلكم من يؤتى بالمنشار فينشر من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه ما يصده ذلك عن دينه)، ولكن حديثي عن التعرض للفتنة التي لا يدري المسلم ماذا يصنع فيها ولا ما يصنع الله به وهل يثبت أو ينتكس أو يفتر وقد جاء في الأثر (لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، : يتحمل من البلاء لما لا يطيق) ومن هذا القبيل جاء النهي عن تمني لقاء العدو وقال صلى الله عليه وسلم (فإذا لقيتموهم فاصبروا) وقد بوب البخاري رحمه الله: باب من الدين الفرار من الفتن، وهذا هو المجال الصحيح لتنزيل مثل هذه التوجيهات الشرعية خلافاً لمن يحتج بها على ترك الجهاد فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يعرضون أنفسهم للفتن والبلاء ومع ذلك ما توانوا عن الجهاد في سبيل الله بل قال صلى الله عليه وسلم: ”لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية“ ولم يترك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولا المسلمون على مر الزمان الجهادَ في سبيل الله بحجة الخوف من الأسر مع أنهم يعلمون أنه لا يخلو الجهاد من أسرى غالباً وقد أسر خبيب بن عدي رضي الله عنه، وإنما كان الموقف من الأسر إذا وقع هو صبر الأسير وسعي إخوانه في فكاكه، وقد فك في عصرنا الحاضر كثير من أسرى بالمجاهدين بوسائل كثيرة فمنها اختطاف أفراد من العدو ومبادلتهم كما حصل للمجاهدين في البوسنة حين أسروا وزير الدفاع الكرواتي واستنقذوا به أسرى المسلمين، وفي روسيا وغيرها يمكن تخليص الأسرى بدفع المال للضباط الروس، ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً.
والدعاء للأسرى حق عظيم وهو بإذن الله طريق نافع لا سيما عند العجز عن فك إسارهم فقد يهيئ الله من الأسباب ما يفرج به عن المؤمنين كما حصل في أسرى سجن أبي غريب في بغداد حيث فك منهم أكثر من ثلاثمائة محاولة من أمريكا للتغطية على جرائمها في حق السجناء، وإن كان بقي منهم من بقي نسأل الله أن يفرج عنهم وعن جميع أسرى المسلمين في كل مكان وأن يؤنس وحشتهم ويحفظ أسرارهم ويلهمهم حججهم ويحفظ عليهم دينهم وعقولهم وجوارحهم ولئن أسر المجاهد في سبيل الله بعد أن أدى ما عليه فإن الله سيكتب له أجره ولكن البائس حقاً من أسرته ذنوبه فكان من القاعدين المتفرجين فلم يغز ولم يجهز غازيا ولم يخلف غازياً في أهله بخير نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
--------------------------------------------------------------------------------