تعد الهجرة من الأمور الحميدة التي حث عليها الإسلام، واعتبرها مصدر من مصادر السعة التي تسهم في رقي الشعوب ونموها، وهذا ليس فقط على المستوى الفردي بل وحتى على المستوى الجماعي يقول تعالى: ﴿ ومن يهاجر في الأرض يجد مراغماً كثيرةً وسعة ﴾، كما في الهجرة نوع من التبادل الثقافي من حيث العادات والتقاليد، واكتساب الخبرات التي يجملها المهاجر معه.
إلا أنه تختلف قابلية الشعوب من منطقة إلى أخرى في التفاعل مع الهجرة وإمكانية الإنخراط مع المجتمع الجديد بين من يحافظ على هويته الأصلية مهما طالت الهجرة واستمرت، وبين من يذوب حتى لا يبقى من هويته الأصلية شيء يذكر، ومن بين هذا وذاك يأتي شعوب تجمع بين أصالتها فتحافظ على تقاليدها وعاداتها وتعتز بانتمائها وأصالتها، كما أنها تتمكن من التكيف مع المجتمع الجديد والاستفادة من إيجابياته.
وإذا كان حديثنا عن المجتمع الأحسائي فإنه يعد من أكثر شعوب الجزيرة العربية قابلية للهجرة، والتفاعل مع البيئة الجديدة لدرجة قد تستمر أجيال متعاقبة ولقرون عدة، إلا أنها في غالب الأحيان تبقى محافظة على طبيعتها الأحسائية بعاداتها وتقاليدها وحتى بساطتها التي عرفت بها، أما أهم أسباب كثافة الهجرة الأحسائية خاصة في القرن العاشر والحادي عشر والثاني عشر، والثالث عشر وأهم العوامل التي أدت إلى استمرارها فإننا يمكن أن نلخصها في النقاط التالية:
أولاً: الاضطراب السياسي:
فقد حفلت الساحة الأحسائية خلال القرون العاشر والحادي والثاني والثالث عشر بالكثير من الصراع بين الرؤوس المتنازعة إما على السلطة داخل الأسر الحاكمة أو بسبب الغزو الخارجي أو الهجمات المتلاحقة التي يقوم بها البدو من العجمان وغيرهم في تلك المنطقة، مما دفع في هجرة العديد من الأسر والعلماء إلى جنوب العراق ووسطها، والساحل الفارسي على منطقة الخليج العربي وخوزستان، والدورق، وعبادان، والكويت وبلاد الشام وغيرها.
ثانياً: السعي في طلب الرزق:
يظهر أن الأحساء مرت في بعض مراحلها التاريخية بسنوات جدب شديدة مما دفع إلى تتالي الهجرات منها إلى الخارج، وكان التوجه في الغالب إلى المناطق التي تتمتع بخصوبة زراعية شبيهة بالأحساء كجنوب العراق وهذا يفسر الكثافة غير الطبيعية من الأحسائيين في البصرة وسوق الشيوخ والزبير، أو التي تتوفر فيها فرص عمل كثيرة تتناسب مع طبيعة المهن التي كانوا يعملونها وهذا نراه في دول الخليج القريبة من الأحساء كالكويت والبحرين وقطر والإمارات.
ثالثاً: الهجرة العلمية:
من المتعارف عليه في الأوساط العلمية منذ القديم وحتى اليوم أن كثير من طلاب العلم يهاجر عن وطنه للتزود علمياً إلى المراكز العلمية كمكة والمدينة والعراق وإيران كي يعود لخدمة بلده، ولكن ما يلبث أن ينسى الهدف الذي خرج من أجله ويتكيف مع البيئة الجديدة ويصبح جزءاً من تركيبتها الاجتماعية لا ينفك عنها ثم يتبعه ذريته التي لم تعرف سوى بلاد المهجر، وعن وطنهم الأصلي ما يتغنى به آبائهم عن الوطن الأم من شوق وحنين.
هذا إضافة إلى بعض العوامل الثانوية التي لايمكن تجاهلها من بينها هجرة بعض العلماء من أجل الأرشاد الديني وتوجيه المجتمعات كهجرة آل الصحاف إلى الكويت في مطلع القرن الثالث عشر الهجري[1] ، أو الهجرة بسبب المشاكل الداخلية في المجتمع.
إلا أنه أكبر هجرتين من الأحساء كما تثبته المصادر هما كما يلي:
الهجرة الأولى:
كانت قبل عام 967هـ، إذ تشير الوثائق العثمانية أنه بعد الأحتلال العثماني للأحساء في مطلع العقد السابع من القرن العاشر الهجري، وما سببوه من ضغط على الأهالي في معاشهم ومصادرة إراضيهم الزارعية التي هي المصدر الوحيد لرزق الكثيرين منهم وعدم توزيعها عليهم تسبب في هجرة أعداد كبيرة من الأهالي على شكل جماعات، فكانت الهجرات نحو البصرة، والبحرين، ونجد، وهرمز، وعمان[2] .
الهجرة الثانية:
كانت في بدايات القرن الثالث عشر الهجري بعد أحداث سنة 1210هـ، وبدء الزحف السعودي الأول، فكانت هناك معارك طاحنة أتت على الكثير من السكان، مما تسبب في حث العلماء للأهالي على الهجرة وترك الوطن للحافظ على حياتهم وأمنهم، فتوجه عدد كبير منهم إلى جنوب العراق للتشابه البيئي بين البلدين.
وقد ساهم في استمرار هذه الهجرة عاملين أساسيين:
العامل الأول: ضعف العصبية الوطنية:
فالأحسائي رغم اعتزازه بوطنه وشوقه وحنينه الذي لاينتهي بوطنه الأحساء، وكما يقول الشاعر الأحسائي علي الرمضان (1185 - 1265هـ) الذي إضطرته الظروف التغرب في بلاد فارس[3] :
تحمـلـت الـهـوى وبــه فـسـادي وأهملـت الحجـى وبـه رشــادى
وقـادنــي الـغــرام إلـيــه حـتــى أتـيــت بـكـفــه ســلــس الـقـيــاد
وأهــون مــا ألاقـــي مـنــه داء تـصــدع مـنــه أكـبــاد الـصــلاد
وبالأحسـاء وهــي مـنـاي قــوم بـعـادهـم نـفــي عـنــي رقــــادي
لهـم جفنـي القريـح يفيـض ريــا بفيـض دموعـه والقلـب صـادي
هيـامـي فيـهـم شـغـلـي ودأبـــي ووجـدي منهـم وشـربـي وزادي
أحــب لأجـلـهـم خـفـقـان قـلـبـي وأهـوى فــي محبتـهـم سـهـادي
وهم حصني المنيع وهم سنادي وهم ركني الوثيق وهم عمـادي
سقـى الأحـسـاء باريـهـا بغـيـث يمد الخصب مـن صـوب العهـاد
فإن نفسية الأحسائي قابلة للتكيف مع الوطن البديل طالما وجد سبل العيش متوفرة وصالحة للبقاء والديمومة.
العامل الثاني: سرعة التكيف.
ونعني به إن الشخصية الأحسائية لا تجد جهداً كبيراً في الانسجام مع متطلبات المجتمع الجديد والتفاعل مع تركيبته الاجتماعية، لتكون فاعلة فيه على الأصعدة السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية وبالتالي تكون جزاً من تطوره ونموه الديموغرافي.
وقد استطاع الأحسائيون أن يعطوا المجتمعات التي وفدوا عليها، فكان منهم الأسر العلمية التي تكونت في المهجر وأصبحت يشار إليها بالبنان، ومنها الفاعلة سياسياً، والآخر الناشط اجتماعياً وسوف ننوه عن أي من ذلك في سياق الحديث عن كل أسرة على حدة، وقد خصصنا الحديث عن القبائل والأسر الأحسائية المهاجرة إلى العراق لأنها تعد أكبر البطون التي احتضنت إليها الكثير من الأحسائيين، والذي يظهر إن الهجرة كانت في معظمها إلى سوق الشيوخ والبصرة حيث يتواجد الكثافة السكانية منهم وذلك يرجع للتشابه الكبير بين البيئتين الزراعية، ومن ثم كانت الهجرة إلى الزبير القريبة التي تعد بيئتها صحراوية نسبياً بسبب البحث عن فرص عمل أفضل.
وقد اعتمدت في تحصيل مادة البحث على المصادر التالية:
- الكتب التي تتناول بشكل عام العشائر والقبائل والأسر العراقية أو الأحسائية.
- الكتب المتخصصة عن بعض العشائر والأسر العراقية أو الأحسائية البارزة.
- اللقاءات الشخصية مع من كان مقيماً في العراق أو له قرابة أو معرفة بالأسر الأحسائية الموجودة هناك.
ومع ذلك لا أدعي أني استطعت أن ألم بجميع الأسر الأحسائية المهاجرة إلى العراق وذلك لاختلاف مسمى البعض عن أسمها الأحسائي بسبب البعد التاريخي، أو لانخراط البعض الأخر في التركيبة العشائرية الموجودة في العراق لكسب الشرعية والقوة الحالة المنتشرة عادة في المجتمعات القبلية، مما ضيع الهوية الأصلية للقبيلة أو الأسرة الأحسائية.
- الأجود:
من العشائر العراقية الكبيرة التي ترجع إلى أصول أحسائية قديمة، فأجدادهم (بني عقيل) حكام الأحساء، والذين كان أبرزهم أجود بن زامل بن جبر العقيلي المتوفى عام 912هـ، وإليه ترج عشيرة الأجود، وقد استمر حكمهم إلى سنة 933هـ.
وفي العراق يعد من أشهر شخصياتهم المعاصرة رئيسهم الراحل الشيخ (زامل المناع) المتوفى سنة 1954هـ، والعشيرة رغم بعدها التاريخ عن جذورها الأحسائية فهي تفتخرون بأصولها ويقولون «كنا فيما مضى أمراء نجد والأحساء».
أما الأفخاذ