نحو إعادة التفكير في مفهوم الاسرة والتربية
مما لاشك فيه تكتسي المؤسسة الأسرية دورا هاما في هذا المجال إلى جانب المؤسسات الاجتماعية الاخرى والمحيط الاجتماعي. فالإنسان تتنازعه مند الولادة حاجتان أساسيتان متعارضتان : الأولى حاجته إلى الأمن ويعبر عنها الطفل برغبته في الارتباط بوالديه، والثانية حاجته إلى الاستطلاع والمجازفة ويعبر عنها برغبة الطفل في استكشاف المجال المحيط به، هذه الثنائية المتعارضة تظهر في مختلف مراحل العمر إلا أنها تتفاوت من مرحلة إلى أخرى. يرى الكثيرون على أن الأسرة تنظيم اجتماعي دفعت إليه الحاجة البيولوجية للإنسان، كما يعبر عن ذلك مالينوفسكي حين يربط الأسرة بغريزة بيولوجية هي الجنس. وإذا ما أخدنا بهذا الرأي فإننا نسقط في مفهوم استاتيكي وثابت للأسرة، أما حين نريد طرح مسألة الأسرة من خلال العلاقات القائمة والمتبادلة بين أعضاءها في إطار المسؤولية والسلطة والتبعية إلى غير ذلك فنحن بصدد تحليل المفهوم الدينامي المتطور للأسرة وأن الإنسان يتميز بخاصية الانفتاح ولا يتحدد بيولوجيا، كما يرى ن. الياس في تحليله للعلاقات العاطفية.
إن الخطاب السوسيولوجي حول الأسرة يعالج بالدرجة الأولى اليوم أنماطا محدودة من الأسر. يرى أنها جديرة بالاهتمام والدراسة تنتمي إلى طبقة محددة داخل المجتمع، إلا أن هذا الاختيار لا يبرر بما فيه الكفاية ويتم تعميم الخطاب على المجتمع وعلى النظام الاجتماعي. مما يطرح مشكلة الشمولية داخل إطار مجتمعي ذو علاقات متمايزة. فحتى داخل الأسر النووية مثلا، تختلف العلاقات التي تربط مختلف أعضاءها. من أسرة نووية لأخرى، فالعلاقات وتبادل الأدوار داخل أسرة نووية تختلف من أسرة مثقفة إلى أخرى. وخصوصا في بلادنا لم ترق الدراسات السوسيولوجية حول الأسرة ودورها التربوي إلى المستوى المطلوب من أجل تفعيل دورها كبنية اجتماعية محددة لكل أشكال الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية... ويتحدث عن ذلك دوركايم في تحليلاته عن الأسرة في درسه الرابع في علم الاجتماع، الأخلاق المدنية. يقول ، ليس هناك مجتمع سياسي لا يحتوي في صميم تشكيله من العائلات المتباينة او من الجماعات المهنية المختلفة، أو من كلتيهما معا، ولو كان هذا المجتمع السياسي محصورا في مجتمع منزلي، لكان في الإمكان دمجه بهذا المجتمع. ولأصبح مجتمعا منزليا، لكنه منذ أن تكون من عدد معين من المجتمعات المنزلية، فإن المجتمع المتكون على هذا النحو صار شيئا آخر مختلف عن كل عناصره، وهذا أمر جديد ينبغي الدل عليه بكلمة مختلفة.
إذن من نافلة القول أن الأسرة من أهم عوامل التربية والتنشئة الاجتماعية. فالتربية الأسرية من أهم الخبرات التي يمر منها الإنسان في حياته. ودور الأسرة الحاسم في تشكيل سلوك الطفل وبناء شخصيته من القضايا القليلة التي لا يختلف بشأنها الأخصائيون الاجتماعيون والنفسيون والتربويون. والأسرة لا تشكل سلوك الطفل وقدراته في مرحلة الطفولة، الأولى فقط بل في مراحل النمو بأكملها، وإذا كانت تحدد وترسم ملامح نموه في مرحلة الطفولة، فهي تحدد كذلك مدى استقلاليته ومفهومة لداته في مرحلة لاحقة، ومدى شعوره بالطمأنينة وتحقيقه لداته، ووضوح أهدافه في مرحلة لاحقة، فالأسرة تبعا لذلك هي الوحدة الأساس في كل المجتمعات البشرية بصرف النظر عن الاختلافات الثقافية وهي لا تعمل على تلبية حاجيات الطفل الأساسية من مأكل وملبس ومأوى فحسب ولكنها تلبي حاجياته الإنسانية الحياتية الأخرى. كالحاجة إلى الانتماء والحب، وتنقل عبر الأجيال التقاليد والقيم الثقافية والروحية والأخلاقية، إنها أشبه ما تكون بعملية تعليم مشروطة يتم الربط فيها ما بين الإشكال والأنماط والقوالب السلوكية التي يرغب في أن ينشأ الطفل عليها والتي تكون تجسيدا لثقافة المجتمع وحضارته وبين الإشباعات الضرورية واللازمة له عضويا وتسمى هذه العملية بالتنشئة الاجتماعية فبواسطتها تتحقق استمرارية قيم الجماعة. فاحتلت بذلك مكانة مهمة لم تحتلها أية مؤسسة اجتماعية أخرى عبر التاريخ فيما يتعلق بالتنشئة، فقد تولت تعليم الأطفال وإعدادهم للمستقبل، إلا أن التطور الذي عرفته المجتمعات جعل الأسرة في مفترق الطرق وتغيرت بذلك الأدوار التربوية للأسرة حيث سلبت المجتمعات الحديثة الأسرة وظائفها تدريجيا، فوظائف الأسرة في القديم كانت واسعة تشمل معظم شؤون الحياة. والمجتمعات الحديثة أخذت تنتقص شيئا فشيئا هاته الوظائف وهذا ما نراه في كلام كونط حول الأسرة في درس 48 من دروس الفلسفة الوضعية عام 1839 حيث يقول : « إن الإصابات الخطيرة التي تصاب بها هذه المؤسسة مباشرة اليوم ينبغي النظر إليها بوصفها من أشد أعراض ميلنا الاجتماعي العابر إلى الفوضى، إلا أن انتقادات كهذه، وهي تتمة طبيعية للغلو الحتمي للفكر الثوري المتصل بفوضانا الفكرية، ليست بوجه خاص خطيرة حقا إلا بسبب العجز الراهن الشديد للمعتقدات التي مازالت ترسى عليها، وحدها الأفكار العائلية على غرار كل التصورات الأخرى. » وهذا دليل على بداية التحولات داخل الخلية الأسرية مع بداية عهد التصنيع، وظهور المجتمع الصناعي، إلا أنها تبقى المؤسسة الأكثر أهمية في النظام الاجتماعي وهو ما يؤكده كونط في درسه 50 حيث يرى على أن الوحدة الاجتماعية الحقيقية تكمن يقينا في الأسرة وحدها وأنها هي البدرة الضرورية لكل الاستعدادات الأساسية التي تميز الجسم الاجتماعي العضوي.ورغم هذه التحولات العميقة التي عرفتها الأسرة. تضل الإطار العام الذي يغطي جميع الادوار الاجتماعية المختلفة التي يلعبها الفرد على مسرح الحياة. وهي الأساس الذي يحيط باستجابات الفرد المختلفة اتجاه بيئته التي يعيش فيها .وكل تقصير في أحد أدوارها يؤدي إلى اضطربات ونفسية وسلوكات شادة تدفع بالطفل نحو الضياع والانحراف والتشرد، فالأسرة إذن عبارة عن منظومة تتكامل داخلها الأدوار والتفاعلات كوحدة وظيفية لا يمكن أن تمارس وظائفها إلى في إطار الاستقرار النسبي، فهي المؤسسة الأولى التي تضمن للطفل نموا، وتطبيعا اجتماعيا، وتمارس أول مراقبة لسلوكه. ودور الأسرة سلطوي ويحدد بطريقة محددة مستقبل الطفل، والأسرة تمارس على الأطفال نموذجا ثقافيا خاصا، وهذا صحيح لكل أنواع المجتمعات كيفما كانت تقليدية أو ذات تصنيع عالي. ولفهم الأدوار التي تقوم بها الأسرة ينبغي أن نذكر بأن الأسرة نظام اجتماعي يشتمل على أربع مكونات رئيسية :
1- المصادر : وتشمل الوسائل المتاحة للأسرة لإشباع الحاجات الفردية والجماعية لإفرادها.
2- التفاعل : تمثل العلاقات بين أفراد الأسرة وباقي أعضاء المجتمع.
3- الوظائف : وهي كل الحاجات التي تتحمل الأسرة مسؤولية تلبيتها.
4- السيرورة : انها سلسلة التغيرات التي تلحق بالأسرة.
وبتكامل هاته الأدوار يمكن للأسرة أن تؤدي دورها المنوط بها، ويشعر أفرادها بالارتباط الأسري والعاطفي القوي من جهة وبالاستقلالية والخصوصية من جهة أخرى. مما يقلل نسبة التفككات العائلية التي تؤثر على سلوك الطفل باعتبارها اللبنة الأولى التي يتعامل من خلالها الطفل، ويبدأ تكوين ذاته والتعرف على نفسه عن طريق عملية الأخذ والعطاء والتعامل بينه وبين أعضاءها.
ويؤثر المركز الاجتماعي والاقتصادي للأسرة في شخصية الطفل تكوينا واتجاها. فالأسرة ذات المستوى الاقتصادي العالي تتيح لأطفالها فرص التمتع بالخدمات الاجتماعية المختلفة بسهولة ويسر مما يؤدي إلى أن تستغل طاقات هؤلاء الأفراد وقدراتهم إلى أقصى حد ممكن، بينما يكون المركز الاقتصادي والاجتماعي المتدهور عائقا أمام تمتع أفراد هذه الأسر بالخدمات الاجتماعية وخاصة التعليمية منها.
ودور الأسرة نحو الطفل يتمثل في ثلاث وظائف أساسية هامة في المجتمع :
1- إنها تنتج الأطفال وتمدهم بالبنية الصالحة لتحقيق حاجاتهم البيولوجية والاجتماعية.
2 - إنها تعدهم للمشاركة في حياة المجتمع وفي التعرف على قيمه وعاداته.
3- إنها تمدهم بالوسائل التي تهيئ لهم تكوين ذواتهم داخل المجتمع.
إلا أن التغيرات التي طرأت على الأسرة جعلتها مقسمة بين تيارين تيار الجيل القديم والتيار الجديد، مما أدى إلى تنافر بين الآباء والأبناء، ونتج عن ذلك نضال فكري يتضح في ثورة الجديد على القديم، ولا شك في أن التربية تقوم بدور أساسي في تعريف الجيل القديم بما تحقق من تطور وبالطرق التربوية الحديثة التي يجب أن تسود معاملات الآباء للأبناء في هذا العصر الذي يحس فيه الجيل الجديد بنوع من الاستقلالية والشخصية الانفرادية.
إن تبني الآباء لمواقف متطرفة ومتعصبة في تعاملهم مع الأبناء كالإفراط في الحماية، والرفض والإهمال، أو قساوة المعاملة، غالبا ما يقود إلى عدم النضج وافتقار الشخصية إلى التكامل، فحماية الطفل بشكل مفرط بدون مبرر. هي في الواقع حرمان له من فرص ضرورية للنمو والتكيف والقدرة على مواجهة تحديات مصاعب الحياة اليومية. كما أن الإهمال والرفض والعنف لا يولد إلا السلوكات الشادة. ومن جهة أخرى فخلافات الوالدين لها تأثيرات كبيرة على نمو شخصية الطفل واكتمالها، كما أن التشاجر بين الزوجين أمام مرأى الأطفال وباستمرار يولد لدى الطفل شعورا بالقلق والتوثر ويكونون أقل قدرة على التعامل مع مشاعرهم وسلوكهم وميولاتهم. فالجو الأسري السلبي عموما وكيفما كانت الأسباب يقود إلى مشكلات سلوكية عالية من الضيق النفسي، وتبين أن الخلافات الزوجية، في مرحلة ما قبل المدرسة، تترك تأثيرات طويلة الأمد تستمر إلى مرحلة متقدمة من العمر. يكون الأبناء أقل قدرة من غيرهم على بناء علاقات اجتماعية ايجابية مع المحيط ومع الآخرين، وأقل قدرة على ممارسة الضبط الذاتي، ورغم أن الخلافات والمشاجرات بين الزوجين عملية طبيعية في الحياة الأسرية مادامت في حدود معينة إلا أن الصراعات الدائمة بين الزوجين التي تحدث على مرأى الأطفال الصغار قد تكون لها انعكاسات سلبية على الأطفال.
فالروابط الأسرية إذن هي نتائج تفاعلات معقدة بين جملة من العوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية، ويتحدد ترابط الأسرة على ضوء عوامل داخلية وخارجية، فالمحيط الاجتماعي له تأثير كبير على الوسط الأسري، إذا كانت الأسرة هي اللبنة الأولى في المجتمع. وأساس وجوده. فالمجتمع هو الذي يشكل وينظم نمط الأسرة ووظائفها، أما العوامل الداخلية والتي تشمل طرق استجابة أفراد الأسرة كل منهم للآخر ومدى إشباعهم لحاجاتهم بشكل تبادلي ومستوى الانسجام والتجانس فيما بينهم، فإنها لا تقل أهمية من العوامل الخارجية على صعيد تحقيق الترابط، والحياة الأسرية بما تتضمن من تفاعلات مستمرة بين عدة مستويات وأطراف متفاوتة من الاعتماد المتبادل، قد تنطوي على صعوبات مختلفة مثلما تنطوي على الشعور بالأمن والانتماء، والنتائج المحتملة كوحدة وظيفية أصبحت أكثر وضوحا من ذي قبل. أضف إلى ذلك التحولات التي تعرفها الأسرة اليوم في مجتمعنا، تحولها من الأسرة الممتدة إلى النووية يستغرق وقتا طويلا. وفي ظل ظروف اقتصادية واجتماعية مزرية، سيكون الثمن المدفوع لذلك، هم الأطفال، عكس ما حدث بأوربا ، حيث تزامن التحول مع بداية التصنيع، ولذلك فإن تحول الأسرة اليوم يتزامن مع عصر العولمة والأزمات الاجتماعية الحادة، والنمو الديموغرافي السريع، سيؤثر بدون شك على البنية الأسرية، وسيجمعها عرضة للأزمات أكثر من أي وقت مضى ويؤدي بالتالي إلى تردي دورها التربوي وإلى ظهور حالات طفولة شادة.